قال الروائي المغربي البارز عبد الكريم الجويطي إن “كل العلوم الاجتماعية تحتاج الرواية، ولن نجد كتابا حقيقيا في أي حقل للعلوم الإنسانية لا يتضمن استشهادا بعمل تخييلي”، معتبرا أن “الفكر العالمي كله منذ القرن التاسع عشر حتى الآن ظل يسير وهو يحمل الرواية في قلبه”، مضيفا أن “عظمة الأخيرة أنها جاءت لتتحدث عن محنة الإنسان في التاريخ وتقدم رؤيتها لهذا التاريخ (…) ونحن مدينون للسرد بإنسانيتنا”.
الجويطي الذي كان يلقي محاضرة حول “الرواية والتاريخ” داخل فضاء المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، التابع لأكاديمية المملكة المغربية، أشار إلى أنه “منذ أن خرج دونكيشوت من الفضاء الخلفي لداره، وصار رفقة سانشو بانزا مواجها الواقع بالخيال، الجديد بالقديم، العقل بالحماقة ونثريات الحياة بشعرية الفروسية، الإنسان الصغير الضائع بالبطل الذي يحس بالمسؤولية الكبرى تجاه العالم، ولدت الرواية”.
وبحسب ما ذكره مبدع “ليل الشمس” في المحاضرة الافتتاحية لأنشطة المعهد التي حضرها أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة، عبد الجليل الحجمري، وشخصيات ثقافية أخرى، فإنها ولدت “لتأخذ على عاتقها تذكيرنا بأن التاريخ ليس سوى حاضر صاغ ماضيه دوما بحاجياته وأطماعه ومراميه”، وزاد: “ما التاريخ إلا صيغ متراكمة عبر الزمن لحاضر أراد في كل مرة تملك الماضي”.
وفق الجويطي الذي كان يتحدث بجانب مؤرخ مغربي بارز: رحال بوبريك، الذي عينه الملك محمد السادس مؤخرا مديرا للمعهد سالف الذكر، فإن “الرواية ورثت الحاجة لبناء ذاكرة جماعية وفردية متناغمة مع العالم من الملحمة”، مسجلا “ضياع الإنسان التام في عالم المدينة”، وقال: “صار فردا مسحوقا ومعزولا عما يجري ولم يعد يتلقى العون لا من السماء ولا من الأرض. الرابط الذي يربطه بباقي الأفراد هو رابط المجاورة في المكان فقط”.
وتابع شارحا: “إنها الحياة الجديدة للساحات والشوارع، حيث يتخاصر الغرباء ويولد الحدث بشكل عرضي، وتتشابك المصائر وتتنامى، لا لتصل إلى تلك النهاية السعيدة كما في الملحمة، حيث ينتصر الخير على الشر، وإنما لتفضي لفكرة ألا أحد ينتصر في العالم الجديد غير السلعة والقيمة التبادلية والأشكال التوتاليتارية الساحقة التي تحول الأفراد إلى أرقام”.
وكعادته، في كل محاضرة أو ندوة، انتقل الروائي المغربي بين حقول الفلسفة والأدب والتاريخ واللغة ليبحث عن “ترابط متحقق” بين التخييل والعلوم الإنسانية، وخلص إلى أن “الرواية أخذت على عاتقها بناء سيرة البطل الغفل والنكرة (…) وبذلك صعدت الحياة اليومية المبتذلة التي كان يعافها أدب الملاحم إلى سطح التاريخ”.
وقال: “من واجبنا ألا نستصغر هذه التخمة في التفاصيل اليومية التي تطفح بها الروايات”، وأضاف: “علينا ألا نضجر من هذا السرد الذي يصير فريسة لذاكرة محمومة لا تتردد فيها أحداث عظام تاريخية، وإنما وقائع صغيرة بلا مجد من مجرى حياة صغيرة يمكن لكل واحد منا أن يرى نفسه فيها”، فـ”الخارق استثنائي في حياة البشر، أما المبتذل فمشاعٌ وملقى في الطرقات”.
وزاد: “نبهنا فالتر بنيامين إلى أن القرن التاسع عشر لم يكشف نفسه لزولا أو لأناتول فرانس، بل لبروست الشاب. هذا المترفع التافه المستهتر، ونجم المجتمع الذي انتزع بشكل عابر أشد الأسرار إدهاشا”، وواصل: “تطلب وجود بروست جعل القرن التاسع عشر ناضجا بالذكريات. لم يكشف قرن كامل نفسه لكُتاب الواقعية الطبيعية ولا غيرها، إنما لكاتب مريض ومنعزل ومهووس بماضيه الذي يصارع فيه التذكر النسيان بشكل لا هوادة فيه.. الرواية ماكرة جدا”.
ولفت صاحب “المغاربة” إلى أن “كارل ماركس فهم بوضوح الطبقات المتراكمة في المجتمع من خلال [الكوميديا الإنسانية] لبلزاك أكثر مما أفهمته ذلك كتب الاقتصاد. كما كشفت لنا رواية سولجنستين فظاعات ومعسكرات الاعتقال في روسيا أكثر مما فعلت التقارير السياسية. وفضحت رواية [الديكتاتور] في أمريكا اللاتينية الاختناق والعبث السياسي أكثر مما فعلت الأحزاب السياسية المعارضة”.
وأنهى الجويطي “الالتباس” الحاصل عند البعض بين الروائي والمؤرخ، بقوله: “لا تكتب الرواية سوى التاريخ، وإن كان بطريقة ملتبسة ومخاتلة، حتى لو كانت رواية عجائبية أو رواية خيال علمي أو رواية فانتازيا أو سريالية، فهناك خيط رفيع يشدها دوما للواقع، ويجعل منها في النهاية وثيقة عن المتخيل البشري في مرحلة من المراحل”، وزاد: “للتاريخ راحة يد بحجم الوجود البشري وسيرورته، وكل ما وقع فيه تستطيع الرواية أن تلتقطه وتعيده إليه”.
وبخصوص الخصائص “شبه الحصرية” للروائي أمام المؤرخ، لفت كاتب “ثورة الأيام الأربعة” إلى “قدرة الرواية على السخرية من وقائع التاريخ”، ووضح: “تسخر أيضا من أبطال مجدهم التاريخ”، موردا “قدرتها على التنسيب، (…) فكل ما يدخل الرواية يُشك فيه، بينما عمل المؤرخ يبتغي أساسا بناء وثوقية ما حول حدث معين أو مرحلة تاريخية معينة. والرواية هي العدو اللدود للوثوقية وتمتلك الأدوات التي تقوضها: السخرية”.
تعليقات
0