احتضنت جامعة القاضي عياض بمراكش أشغال الندوة العلمية حول موضوع “الحماية الاجتماعية: الفرص والحدود”، نظمها مركز تكامل للدراسات والأبحاث ومختبر الأبحاث القانونية وتحليل السياسات، بشراكة مع مؤسسة هانس زايدل. وقد شكلت هذه الندوة ملتقى أكاديميًا للنقاش وتبادل الآراء بين خبراء وباحثين مغاربة ودوليين حول سبل تطوير منظومة الحماية الاجتماعية بما يتناسب مع متطلبات المرحلة الراهنة.
وأجمع المشاركون على أن الحماية الاجتماعية ليست فقط أداة لمعالجة التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، بل هي استثمار أساسي في تعزيز التماسك الاجتماعي وتحقيق تنمية مستدامة. غير أن تحقيق هذه الغاية يتطلب تجاوز مجموعة من الإكراهات التي تواجه تنزيل برامج الحماية الاجتماعية، خصوصًا في ظل واقع معقد يشمل تحديات التمويل، وضعف الحكامة، والاختلالات البنيوية والتشريعية.
في هذا السياق، شكلت إشكالية التمويل أحد المحاور الرئيسية التي استأثرت بالنقاش، حيث أكد المتدخلون أن اعتماد الدولة بشكل أساسي على الضرائب لتمويل برامج الحماية الاجتماعية يؤدي إلى زيادة الأعباء على الطبقات الوسطى، في وقت تعاني فيه الميزانية من ضغط كبير بفعل نفقات التسيير. وفي هذا الصدد، طُرحت ضرورة البحث عن حلول مبتكرة ومصادر تمويل إضافية، من بينها تنويع الوعاء الضريبي، وإدخال آليات جديدة تشمل إشراك القطاع الخاص، والاستفادة من الهبات والاستثمارات لتعزيز الاستدامة المالية للبرامج الاجتماعية.
من جانب آخر، عرفت الندوة نقاشًا مستفيضا حول القطاع غير المهيكل باعتباره تحديًا بارزًا أمام تعميم الحماية الاجتماعية. وأشار المتدخلون إلى أن هذه الفئة العريضة من العاملين تعاني من غياب أي ضمانات قانونية أو اجتماعية، مما يجعلها عرضة للهشاشة الاقتصادية. وتم التأكيد على ضرورة تطوير سياسات لإدماج العمال غير المهيكلين، عبر آليات مرنة تتناسب مع طبيعة هذا القطاع، وتوفير قاعدة بيانات دقيقة تساهم في تحديد الفئات المستحقة وتوجيه الدعم بفعالية وشفافية.
كما شدد المشاركون على أهمية الحكامة والشفافية في ضمان نجاح السياسات الاجتماعية. واعتبروا أن ضعف المراقبة وغياب ربط المسؤولية بالمحاسبة يحدّ من فعالية البرامج الحالية، مشيرين إلى أن الحكامة الجيدة تظل شرطًا أساسيًا لتحسين إدارة الموارد المالية وتوجيهها نحو الأولويات الاجتماعية. وفي هذا الإطار، دعا المشاركون إلى تعزيز آليات الرقابة والتقييم المستمر، والحرص على تحقيق الشفافية في تدبير الميزانيات الموجهة للحماية الاجتماعية، مع محاربة كل أشكال الهدر والفساد.
ولم يغب البعد الدولي عن هذه الندوة، إذ تم عرض تجارب ناجحة في مجال الحماية الاجتماعية، من بينها التجربة الألمانية التي تُعد نموذجًا في التكامل بين مصادر التمويل وتعميم التغطية، وبرنامج “بولسا فاميليا” البرازيلي الذي نجح في الحد من الفقر عبر تقديم دعم مشروط يربط المساعدات بالتزام الأسر بإرسال أطفالها إلى المدارس والالتزام بالرعاية الصحية. واعتُبرت هذه التجارب مصدر إلهام للمغرب، مع الإشارة إلى أهمية تكييفها بما يتلاءم مع الواقع المغربي وخصوصياته الاقتصادية والاجتماعية.
وفي سياق متصل، ناقش المشاركون التفاوتات المجالية والاجتماعية التي تعمق الهشاشة وتزيد من معاناة الفئات الضعيفة. وتشير البيانات الرسمية إلى وجود ملايين المغاربة خارج دائرة التعليم والتكوين، مما يحرمهم من فرص الاندماج الاجتماعي والاقتصادي. وقد تمت الإشارة إلى أهمية الاستثمار في تطوير برامج التكوين والتأهيل المهني للفئات الهشة، خاصة في المناطق القروية، لدعم إدماجها في سوق الشغل وتحقيق الاستقلالية الاقتصادية.
وشددت المداخلات على أن تحسين واقع الحماية الاجتماعية يتطلب نهج مقاربة شاملة ترتكز على العدالة الاجتماعية وتحقيق التوازن بين الفئات والجهات، من خلال توجيه الموارد نحو تقليص الفوارق المجالية وتعزيز البنيات التحتية الأساسية في المناطق النائية، خصوصًا فيما يتعلق بالصحة والتعليم. كما اعتبر المتدخلون أن ضمان الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر هشاشة لا يمكن أن يتحقق إلا بتطوير سياسات استباقية تُراعي البعد التربوي والاقتصادي، وتحرص على تأهيل الأفراد وتمكينهم من المهارات اللازمة لضمان مشاركتهم الفعّالة في عملية التنمية.
واختُتمت الندوة العلمية بالإشارة إلى أن الحماية الاجتماعية تُمثل إحدى ركائز تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، لكنها تتطلب إرادة سياسية قوية ورؤية استراتيجية واضحة تستند إلى حكامة فعالة وتمويل مستدام. وأكد المشاركون أن المغرب يتوفر على فرص مهمة لإصلاح هذه المنظومة، شرط العمل على تحقيق التكامل بين السياسات القطاعية وتوجيه الموارد المالية نحو أولويات واضحة تخدم الفئات الأكثر حاجة، وإعادة النظر في معايير انتقاء المستفيدين.
وبذلك، شكلت هذه الندوة محطة علمية متميزة سلطت الضوء على مختلف جوانب الحماية الاجتماعية بالمغرب، وفتحت المجال أمام مقترحات عملية قادرة على تحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي، بما يضمن كرامة المواطن ويرسخ أسس العدالة والتنمية المستدامة. وسيتم نشر أشغال الندوة ضمن كتاب جماعي يتضمن حوالي عشرين دراسة تناقش موضوع الحماية الاجتماعية بعد سنة على بدء التنزيل.
تعليقات
0