تناولت رشا مصطفى عوض، الخبيرة في السياسات العامة والمديرة التنفيذية السابقة لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري، التداعيات الاقتصادية لأجندة الرئيس المنتخب دونالد ترامب لدعم العملات المشفرة، مشيرة إلى رؤيته لجعل الولايات المتحدة مركزا عالميا في هذا المجال، ولفتت إلى أن “البيتكوين شهدت ارتفاعات قياسية بعد الانتخابات، مما يعيد تشكيل السوق العالمي””.
وأوضحت الدكتورة رشا، في مقال نشر على منصة المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بعنوان “ملخص التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا”، أن “آسيا تُعاني من تحديات مثل هجرة المواهب وصعوبة مواكبة الدعم المؤسسي الأمريكي، فالولايات المتحدة تستقطب النسبة الأكبر من مطوري العملات المشفرة عالميا؛ ما يهدد قدرة الأسواق الآسيوية على الحفاظ على تنافسيتها”. ولمواجهة هذا التحدي، تقترح الكاتبة “تعزيز التعاون الإقليمي، وتطوير مراكز الابتكار، وتوفير حوافز للشركات الناشئة”؛ كما تدعو إلى “سياسات مرنة، مثل إصدار تأشيرات عمل متخصصة لدعم المواهب في هذا القطاع المتنامي”.
وأبرزت الخبيرة السياسية التحدي البيئي المرتبط بتعدين العملات المشفرة، مع الحاجة إلى تعزيز الاستدامة، مشيرة إلى أن “آسيا بإمكانها أن تقود الابتكار في التعدين الأخضر باستخدام الطاقة المتجددة وتطوير بنية تحتية صديقة للبيئة”، مؤكدة أن “هذه الجهود قد تُعزز مكانتها عالميا، مع تحقيق توازن بين النمو الاقتصادي والاستدامة البيئية”.
نص المقال:
يقول الفيلسوف الأمريكي إريك هوفر (Eric Hoffer) إن الطريقة الوحيدة للتنبؤ بالمستقبل هي امتلاك القدرة على تشكيله. ينطبق الأمر نفسه على مستقبل العملات المشفرة في آسيا، التي تواجه اليوم نقطة تحول تاريخية بعد إعلان الرئيس المُنتخَب دونالد ترامب عن رؤيته لتحويل الولايات المتحدة الأمريكية إلى “عاصمة الكوكب للعملات المشفرة”.
يعيد هذا التوجه تشكيل المشهد المالي العالمي، مدعوما بالارتفاعات القياسية الأخيرة في أسعار العملات المشفرة؛ فقد شهدت عملة البيتكوين ارتفاعا ملحوظا بنسبة 40 في المائة منذ الانتخابات الأمريكية في 5 نونبر 2024 وحتى يوم 22 من الشهر نفسه، لتتجاوز عتبة 100 ألف دولار أمريكي، بعد أن كانت قيمتها 43607 دولارات أمريكية فقط في بداية العام.
في هذا السياق، يُبرِز تقرير “جغرافيا العملات المشفرة لعام 2024” الصادر عن مؤسسة “تشيناليسيس”، الأهمية المتزايدة لآسيا في النظام البيئي العالمي للعملات المشفرة؛ حيث استحوذت منطقة آسيا وأوقيانوسيا على 25.5 في المائة من تدفقات الأصول المشفرة العالمية خلال الفترة (يوليو 2023 – يونيو 2024)، بما يعادل 1.15 تريليون دولار أمريكي، مقارنة بنحو 22.5 في المائة فقط لأمريكا الشمالية (الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبرمودا)، بواقع 1.3 تريليون دولار أمريكي.
وبينما احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميا من حيث قيمة المعاملات على العملات المشفرة على أراضيها خلال الفترة نفسها؛ فقد جاءت الهند في المرتبة الخامسة مع تصدرها مؤشر “تبني العملات المشفرة” عالميا. ويعكس هذا المؤشر قوة معاملات التجزئة التي يقودها الأفراد والمهنيون.
يطرح هذا التحول تساؤلات جوهرية حول أبرز التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب على الدول الآسيوية التي عززت خلال السنوات الماضية مكانتها كقائد في النظام البيئي العالمي للعملات المشفرة، خاصة الهند التي تقود مؤشر التبني الشعبي، وكوريا الجنوبية التي تُعد أكبر سوق تداول في شرق آسيا، حيث دفعت قلة الثقة بالأنظمة المالية التقليدية المستثمرين نحو العملات المشفرة كأصول بديلة.
آسيا تحت ضغط الهيمنة الأمريكية
تُعد تدفقات رأس المال بمثابة شريان الحياة للابتكار؛ ومن ثم فإن السيطرة عليها تعني السيطرة على المستقبل. تُجسِّد سياسات ترامب المؤيدة للبيتكوين تحولا كبيرا في ديناميكيات الاستثمار المؤسسي العالمي، إذ تهدف إلى جعل الولايات المتحدة الأمريكية الوجهة الأولى للاستثمارات في العملات المشفرة. يفرض هذا التوجه تحديات مباشرة على مكانة آسيا التي طالما كانت رائدة في هذه السوق؛ فمع الدعم التنظيمي والابتكارات الاستثمارية في الولايات المتحدة، تجد الاقتصادات الآسيوية نفسها في موقف يتطلب إعادة تقييم استراتيجياتها لمواكبة هذا التحول الكبير؛ حيث:
1ـ هيمنة متزايدة للولايات المتحدة الأمريكية: شهدت السوق العالمية خلال الأيام الماضية تحولات غير مسبوقة، مع تدفق رأس المال المؤسسي بشكل متزايد نحو الولايات المتحدة الأمريكية، مدفوعة بتوقعات إيجابية عن توفير لوائحها التنظيمية الواضحة ومنتجاتها الاستثمارية المبتكرة التي تجذب المستثمرين العالميين.
على سبيل المثال، حقق صندوق (iShares Bitcoin Trust, IBIT) التابع لشركة “بلاك روك” (BlackRock) حجم تداول قياسي بلغ 4.1 مليار دولار أمريكي في 6 نوفمبر 2024، بينما تجاوزت أصول صناديق الاستثمار في البيتكوين المُدرَجَة في الولايات المتحدة الأمريكية حاجز 100 مليار دولار أمريكي لأول مرة في 21 نوفمبر 2024، بعد أكثر من 10 شهور على إطلاقها في يناير الماضي؛ الأمر الذي يُبرِز قوة النموذج الأمريكي في استقطاب رأس المال.
2ـ تحدٍّ تنافسي للمكانة الآسيوية: لطالما كانت آسيا حجر الزاوية في النظام البيئي للعملات المشفرة بفضل ديناميكياتها المُبتكَرَة ومراكزها المالية الرائدة مثل: سنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية. ومع ذلك، فإن الصعود الأمريكي الأخير بقيادة أجندة ترامب المؤيدة للبيتكوين يفرض ضغطا غير مسبوق على قدرة آسيا على الحفاظ على مركزها الريادي.
وبينما تعتمد الأسواق الآسيوية بشكل كبير على المعاملات الفردية والتجزئة؛ فإن الولايات المتحدة تركز على جذب المؤسسات الكبيرة وصناديق الاستثمار الرائدة. ويخلق هذا التوجه فجوة كبيرة بين السوقين. وإلى جانب ذلك، فإن الدعم الحكومي المتزايد في الولايات المتحدة الأمريكية يوفر حوافز مباشرة وغير مباشرة للمستثمرين؛ مما يزيد من جاذبيتها مقارنة بالبيئات التنظيمية الآسيوية.
3ـ حواجز جذب رأس المال العالمي: يتطلب الحفاظ على مكانة آسيا إعادة صياغة سياساتها الاقتصادية والتنظيمية، مع التركيز على دعم الابتكار المؤسسي، وتوفير حوافز استثمارية مُوجَّهة إلى الشركات العالمية والمحلية، وضمان بيئة مستقرة ومربحة تجذب المزيد من التدفقات لأسواق عملاتها المشفرة.
على سبيل المثال، تُعد السياسات الضريبية الهندية الحالية، التي تشمل 30 في المائة ضريبة على مكاسب رأس المال و1 في المائة ضريبة المعاملات، عائقا كبيرا أمام المستثمرين المؤسسيين. يمكن للهند أن تُعيد صياغة سياساتها لتخفيض هذه الضرائب أو تقديم حوافز للشركات الناشئة؛ مما يُعزز جاذبية سوقها. وفي كوريا الجنوبية، يمكن تطوير منتجات مالية مُبتكَرَة لتعزيز السيولة المحلية وجذب المستثمرين الدوليين الذين يبحثون عن بدائل للأسواق الأمريكية.
مشكلات الابتكار والاحتفاظ بالمواهب
لطالما كانت المواهب هي العنصر الأكثر أهمية في اقتصادات العملات المشفرة، ومَنْ يجذبها يقود مستقبل الابتكار. ووفقا لتقرير صادر عن شركة “إليكتريك كابيتال” (Electric Capital) الأمريكية، تستحوذ الولايات المتحدة على 18.8 في المائة من المطورين العالميين في مجال العملات المشفرة، مقارنة بنسبة 11.8 في المائة فقط في الهند، ثاني أكبر مساهم عالمي في هذا القطاع لعام 2024.
ومع سياسات الرئيس ترامب المؤيدة للعملات المشفرة، يُتوقَّع أن تزداد قدرة الولايات المتحدة على جذب المواهب العالمية في هذا المجال، مستفيدة من بنية تحتية تقنية قوية ودعم حكومي واسع النطاق. في المقابل، ستواجه الاقتصادات الآسيوية تحديات متزايدة للحفاظ على مواهبها. لذا، فإنها تحتاج إلى اعتماد استراتيجيات مُبتكَرَة لتعزيز نظامها البيئي وضمان تنافسيتها في مواجهة هذا التحول العالمي؛ حيث:
1ـ التأثير الأمريكي في هجرة المواهب وتدفقات الابتكار: مع إطلاق الولايات المتحدة 9 صناديق استثمار متداولة للبيتكوين والإيثريوم منذ يناير 2024، إلى جانب توفير لوائح تنظيمية واضحة، أصبحت الولايات المتحدة وجهة رئيسية للمواهب العالمية في العملات المشفرة؛ حيث توفر مدن مثل: ميامي ووادي السيليكون بيئة جذابة تجمع بين فرص واسعة للوصول إلى رأس المال الاستثماري وثقافة تدعم الابتكار التكنولوجي.
هذا المناخ المرن والمربح يجذب المواهب والشركات الناشئة من آسيا، التي تواجه غالبا قيودا تنظيمية تحد من نموها. على سبيل المثال، شهدت شركات ناشئة آسيوية، مثل فريق Polygon الهندي، انتقالا جزئيا إلى السوق الأمريكية للاستفادة من فرص التمويل والدعم. لمواجهة هذه التحديات، تحتاج الدول الآسيوية إلى تطوير نظم بيئية مرنة وسياسات جاذبة للتنافس مع السوق الأمريكية، مع التركيز على دعم التعاون الإقليمي لاستبقاء المبتكرين.
2ـ فرص التعاون لتعزيز الابتكار المحلي والإقليمي: لمواجهة النزيف المستمر للمواهب نحو الولايات المتحدة، يمكن لدول آسيا تعزيز التعاون بين الشركات الكبرى والشركات الناشئة. على سبيل المثال، يمكن لشركات تكنولوجية آسيوية كبرى العمل مع مطوري العملات المشفرة المحليين لتطوير مبادرات تقنية جديدة تخدم الاحتياجات الإقليمية. إضافة إلى ذلك، يمكن للهند قيادة جهود إقليمية لإنشاء مراكز ابتكار مشتركة مع دول مثل: كوريا الجنوبية واليابان. هذه المراكز يمكن أن تدعم تطوير التطبيقات اللامركزية (Decentralized Applications, dApps)؛ مما يعزز الابتكار في المنطقة ويوفر بيئة تنافسية للمواهب المحلية والعالمية.
3ـ برامج تحفيزية لجذب واستبقاء المواهب: في ظل تصاعد المنافسة العالمية على المواهب في مجال العملات المشفرة، يمكن لدول آسيا أن تطلق برامج حوافز مالية وغير مالية لجذب المطورين والاحتفاظ بهم. على سبيل المثال، يمكن أن تقدم الهند وكوريا الجنوبية برامج تمويل مخصصة للمشروعات الريادية في العملات المشفرة، تتضمن منحا للابتكار وإعفاءات ضريبية طويلة الأمد للشركات الناشئة التي تعمل في هذا القطاع. إضافة إلى ذلك، يمكن تطوير سياسات هجرة مرنة تتيح جذب المواهب العالمية بسهولة، مثل إصدار “تأشيرات عملات مشفرة” خاصة للمطورين والخبراء التقنيين، مشابهة للبرامج التي أطلقتها بعض الدول الأوروبية لاستقطاب رواد الأعمال الرقميين.
الاستقرار المالي والتنافسية التجارية
في عالم مُعولم، يُمكن القول إن الاستقرار المالي يُعد هدفا وشرطا لاستدامة التنافسية في الوقت نفسه. ومع تعهُد الرئيس المُنتخَب ترامب بتكوين مخزون استراتيجي للبيتكوين، فإن ذلك قد يؤدي إلى تغييرات هيكلية في كيفية إدارة الاقتصادات الكبرى لأصولها وتدفقاتها التجارية. ومن ثم، يُمكن أن تواجه البلدان الآسيوية –باعتبارها مركزا تجاريا عالميا ومصدرا رئيسيا للسيولة في الأسواق الناشئة– تحديات كبيرة لضمان استقرارها المالي وقدرتها على المنافسة التجارية.
تثير هذه التحولات تساؤلات مهمة حول كيفية تكيُف آسيا مع هذه البيئة الجديدة والاستفادة منها لتعزيز موقعها في التجارة الدولية؛ حيث:
1ـ البيتكوين كأصل احتياطي وتأثيره في استقرار العملات الآسيوية: يفرض تبني الولايات المتحدة للبيتكوين كأصل احتياطي استراتيجي إحداث تغييرات جذرية في النظام النقدي العالمي؛ ما يفرض ضغوطا كبيرة على العملات الآسيوية؛ فإذا عززت البيتكوين مكانتها كملاذ آمن عالمي، فقد يؤدي ذلك إلى تقلبات حادة في أسعار العملات الآسيوية، خاصة تلك التي تعتمد بشكل كبير على التدفقات الدولارية مثل: الروبية الهندية أو الوون الكوري. على سبيل المثال، مع توجه الاقتصادات نحو البيتكوين كاحتياطي، قد تضطر البنوك المركزية الآسيوية إلى تطوير أدوات نقدية جديدة مثل إصدار عملات رقمية وطنية قادرة على التنافس مع البيتكوين، مع ضمان استقرار أسواق الصرف الأجنبي.
2ـ تأثير البيتكوين في تدفقات التجارة الإقليمية والدولية: قد يؤدي تعزيز استخدام البيتكوين كوسيلة للدفع في التجارة الدولية إلى تقليل هيمنة الدولار الأمريكي؛ ولكنه قد يفرض تحديات تجارية جديدة. بالنسبة لآسيا، التي تعتمد بشدة على الدولار الأمريكي لتسوياتها التجارية، فإن استخدام البيتكوين قد يخفف من القيود المرتبطة بالعملة الأمريكية؛ لكنه سيُعرِّض الشركات الآسيوية لمخاطر تقلبات أسعار البيتكوين. لذا، قد تضطر الشركات إلى تطوير استراتيجيات تحوُّط فعالة لحماية أرباحها من تقلبات أسعار البيتكوين عند التعامل مع الموردين والعملاء العالميين.
3ـ إعادة تصميم النظم المالية لتبني العملات المشفرة: مع توسُع الولايات المتحدة في البنية التحتية الداعمة للبيتكوين، مثل صناديق الاستثمار المتداولة، تواجه البنوك والمؤسسات المالية الآسيوية ضغطا كبيرا لتبني سياسات مماثلة. لذا، قد تكون إحدى سياسات المواجهة إطلاق منصات مالية مبتكرة تتيح استخدام البيتكوين بشكل أكثر شمولا، مثل: تطبيقات الدفع الرقمي أو محافظ العملات المشفرة المرتبطة بالخدمات المصرفية التقليدية. على الجانب الآخر، يمكن توسيع الاستراتيجيات المالية لتشمل البيتكوين كجزء من أصولها الاستثمارية؛ مما يضمن الاستفادة من النمو المتزايد لهذه العملة دون المساس باستقرار نظامها المالي المحلي.
الاستدامة.. تميُّز آسيا البيئي في العملات المشفرة
في عالم اليوم، أضحت الاستدامة خيارا لا بديل عنه، وضرورة تقود الابتكار والمسؤولية البيئية. وبينما تعزز أجندة الرئيس المُنتخَب ترامب دعم العملات المشفرة كثيفة الطاقة؛ فإن ذلك يثير مخاوف بيئية عالمية حول ارتفاع استهلاك الطاقة وانبعاثات الكربون المرتبطة بتعدين البيتكوين.
ومع التوقعات بقيام الولايات المتحدة بتوسيع بنيتها التحتية لتعدين البيتكوين دون معالجة كافية للجوانب البيئية، تواجه آسيا -كمركز رئيسي لتعدين العملات المشفرة- مفارقة صعبة تتمثل في الحفاظ على تنافسيتها في سوق العملات المشفرة سريعة النمو مع الوفاء بالتزاماتها البيئية والمناخية. وفي هذا الشأن يمكن الوقوف على ما يلي:
1ـ تأثير التعدين كثيف الطاقة في الموارد الآسيوية: وفقا لتقديرات شركة (Precedence Research) الصادرة في نوفمبر 2024، يُتوقَّع أن ينمو حجم السوق العالمية لتعدين العملات المشفرة من 2.45 مليار دولار أمريكي في عام 2024 إلى 8.24 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2034، بمعدل نمو سنوي مركب 12.9 في المائة.
يضع هذا النمو السريع المُتنبأ به ضغوطا متزايدة على الموارد الطبيعية وشبكات الطاقة في آسيا، التي تُعد مركزا عالميا لتعدين العملات المشفرة؛ ذلك أن دولا مثل: الهند وكازاخستان تستضيف عمليات تعدين واسعة؛ ما يزيد من استنزاف الطاقة. على سبيل المثال، تعاني الهند بالفعل من نقص في إمدادات الطاقة في بعض المناطق؛ مما يجعل أي زيادة في أنشطة التعدين تشكل تهديدا للاستقرار الطاقي. للاستجابة لهذه التحديات، تحتاج آسيا إلى استثمارات عاجلة في مصادر الطاقة المتجددة مثل: الطاقة الشمسية والرياح لدعم تعدين العملات المشفرة بطريقة مستدامة.
2ـ قيادة الابتكار في التعدين المستدام: تمتلك آسيا فرصة فريدة لتصبح رائدة عالميا في التعدين المستدام للعملات المشفرة؛ فالاستثمار في تقنيات مبتكرة مثل: الحوسبة الكمية أو المرافق المتقدمة للتعدين التي تعتمد على الطاقة المتجددة يمكن أن يشكل نقطة تحوُل. على سبيل المثال، يمكن للهند وكوريا الجنوبية التعاون مع دول ذات موارد طبيعية غنية بالطاقة المتجددة مثل بوتان، التي تعتمد على الطاقة الكهرومائية، لإنشاء مراكز تعدين خضراء.
وتُعد تجربة شركة TeraWulf الأمريكية، التي تخطط لاستخدام أكثر من 90 في المائة من الطاقة الخالية من الكربون في تعدين البيتكوين، نموذجا يمكن أن تحاكيه دول آسيا. هذه المبادرات يمكن أن تعزز مكانة آسيا كرائدة في الابتكار المالي البيئي، مع تقليل البصمة الكربونية للصناعة. اللافت للانتباه هو أن هذا التوجه يشهد اتجاها مُتناميا في آسيا، حيث تشير تقديرات BIS Research إلى أن قيمة سوق تطبيقات التعدين المستدام في منطقة آسيا والمحيط الهادئ (باستثناء الصين) قد بلغت 479.0 مليون دولار أمريكي في عام 2023، ومن المتوقع أن تصل إلى 2.5 مليارات دولار أمريكي بحلول عام 2032.
3ـ إطار إقليمي للاستدامة في العملات المشفرة: يمكن لآسيا تعزيز مكانتها في مجال العملات المشفرة من خلال تشكيل تحالفات إقليمية تركز على الاستدامة. ويُعد “تحالف آسيا للعملات المشفرة” (Asia Crypto Alliance) مثالا بارزا على ذلك؛ حيث يهدف إلى تعزيز نمو وتطوير نظام بيئي مستدام ومسؤول لمقدمي خدمات الأصول الافتراضية في آسيا. ومن خلال هذا التحالف، يمكن وضع معايير مُوحَّدة لاستهلاك الطاقة في عمليات التعدين، وتقديم حوافز للشركات التي تعتمد على مصادر الطاقة المتجددة. على سبيل المثال، يمكن تطوير شهادات “التعدين الأخضر” كميزة تنافسية للمستثمرين والمؤسسات؛ مما يعكس التزام آسيا بالابتكار المستدام في مجال العملات المشفرة.
أخيرا، تشير أجندة الرئيس المُنتخَب ترامب المؤيدة للبيتكوين إلى إعادة تشكيل قواعد النظام المالي العالمي، مع دفع العملات المشفرة إلى مركز الصدارة في الاقتصاد الرقمي. وقد أسفرت إعادة انتخابه عن صعود أسعار البيتكوين إلى مستويات قياسية، وهو ما بات يُعرف بـ”تأثير ترامب” (Trump Effect)، ليضع آسيا أمام مفترق طرق حاسم: حماية مكانتها كمحور رئيسي في اقتصاد العملات المشفرة، وفي الوقت نفسه تكييف استراتيجياتها مع بيئة جديدة تُعيد الولايات المتحدة رسم ملامحها.
اليوم، تواجه آسيا تحديا مزدوجا يتطلب تفكيرا استباقيا، يبدأ بتطوير أطر تنظيمية مرنة وجاذبة، والاستثمار في المواهب المحلية، وتعزيز التعاون الإقليمي. ومن خلال الابتكار والاستدامة، يمكن لآسيا أن تحوِّل هذه التحديات إلى فرص، لتستمر في تأدية دور رائد في صياغة مستقبل العملات المشفرة، ليس كمتلقٍ للتحولات؛ بل كقوة دافعة تعيد تعريف هذا الاقتصاد سريع النمو. وبينما تتغير قواعد اللعبة، فإن آسيا، بإمكاناتها الكبيرة وإرثها المبتكر، قد تكون أمامها فرصة ذهبية لتكون فاعلا رئيسيا في صياغة قواعد النظام الجديد، وقيادة الاقتصاد الرقمي نحو مستقبل أكثر شمولا واستدامة.
تعليقات
0