في دورتها السادسة العشرة تعود “المناظرة الدولية للمالية العمومية” لمناقشة حكامة المالية العمومية، وهذه المرة بتوسيع الرؤية نحو مزيد من التعاون وتبادل التجارب بين المنظومتيْن الماليتين العموميتيْن المغربية والفرنسية، على ضوء الزخم المتجدد الذي أعطتْه زيارة الدولة التي حملت، نهاية أكتوبر، الرئيس الفرنسي ماكرون إلى المغرب على رأس وفد هام طيلة ثلاثة أيام.
وتناقش هذه المناظرة، خلال يوميْ 1 و2 نونبر الجاري بالرباط، موضوع “نحوَ هيكلة أفضل لنموذج الحكامة المالية العمومية بالمغرب وفرنسا”، وتنظمها وزارة الاقتصاد والمالية، بشراكة مع جمعية المؤسسة الدولية للمالية العمومية (FONDAFIP) ، ودعم من المجلة الفرنسية للمالية العمومية (RFFP).
المالية العمومية الفرنسية
الحدث السنوي لخزينة المملكة تميّز بكلمات افتتاحية لكل من نور الدين بنسودة الخازن العام للمملكة، وكريستوف لوكورتييه سفير فرنسا بالمغرب، الذي أكد أهمية موضوع المناظرة في تمتين روابط التعاون الاقتصادي والمالي، خصوصا بين الرباط وباريس، سيما فيما يتعلق بنماذج تدبير المالية العمومية، مشيداً بخبرة متراكمة ومسار لامع بصم عليه ميشال بوفييه، الأستاذ الفخري في جامعة باريس 1 بانتيون- السوربون، ورئيس “FONDAFIP”، ومدير المجلة الفرنسية للمالية العمومية.
وفي كلمته، قال كريستوف لوكورتييه، سفير فرنسا بالمغرب، إن “المنظومة المالية الفرنسية تبقى من البلدان الأوروبية الرائدة التي عملت على تخفيف العبء الضريبي، خصوصا عن كاهل الشركات وكذا الأفراد”، مبرزاً أنه “منذ سنة 2019 صعدت فرنسا لتصيرَ الاقتصاد الأكثر استقبالا لتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة في القارة الأوروبية، خصوصا الواردة عليها من ألمانيا وأمريكا، بقيمة مالية 30 مليار أورو سنويا”.
وعرّج السفير الفرنسي على “أهمية ومسار إقرار إصلاحات جبائية عبر العمل على تحصيل ضريبة على الثروة في فرنسا، خاصة تلك المتأتية من قطاع العقارات”، مشيرا إلى أن “السياسة الاقتصادية الفرنسية دينامية بشكل كبير لأنها تعتمد التبسيط والبساطة في تدابير المالية العمومية؛ وهو ما يمكن للمغرب أن يستفيد منه في إعادة هيكلته لنماذج الحكامة المالية”.
“قرارات سياسية مَهْما بدت تقنية”
الخازن العام للمملكة، نور الدين بنسودة، أثار بدوره، في كلمته بمناسبة عرض “تقرير تمهيدي” مفصّل ألقاه على مسامع المشاركين في أشغال المناظرة الدولية للمالية العمومية، أهمية “سياق انعقاد الندوة والموضوع”، وقال: “لقد قادنا التفكير المشترك بين جمعية المؤسسة الدولية للمالية العامة والخزينة العامة للمملكة المغربية إلى اختيار موضوع “نحو إعادة هيكلة أفضل لنموذج الحكامة المالية في المغرب وفرنسا””.
وتابع “نحن مقتنعون بأن هناك حاجة إلى مواصلة تحسين وتطوير الحكامة الحالية للمالية العمومية من أجل مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، والاستجابة بفعالية لمتطلبات ومطالب المجتمع”، مضيفا أنه “ينبغي أن نتذكّر بأن جميع القرارات المتعلقة بالمالية العمومية، مهما بدت تقنية، هي قرارات سياسية بامتياز من حيث كونها تتعلق بالعقد الاجتماعي الذي هو، في عمقه، أساس الدولة”.
واسترسل قائلا: “صحيحٌ أن قرارات المالية العمومية هي أيضاً قرارات سياسية، بالمعنى الحزبي للمصطلح، من حيث إنها تعكس برامج الحكومة؛ ومع ذلك يبقى التحدي هو التوفيق بين هذا المعنى الحزبي للمالية العامة، وهو أمر مَشروع، وبين حتمية العيش المشترك، وهو أمر أكثر هيكلية ويستهدف المدى الطويل ويستجيب لتطلعات مواطنينا”.
من هذا المنطلق، تبرُز، حسب بنسودة، “مسألة الحكامة المالية التي من شأنها، إذا تمّ تحسينها، أن تجعل من الممكن ضمان استدامة المالية العمومية”.
ويتعلق الأمر، حيب الخازن العام، بأن “يفتح كل واحد منا عينيْه على أفعالنا بشكل يومي، التي يمكن أن تغير هذه الاستدامة وتُعيق تقارب والتقائية السياسات العمومية”.
وأضاف “يمكننا أن نرى أن جهوداً جديرة بالثناء بُذلت في مجال حكامة المالية العمومية في المغرب، أولاً من خلال إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية سنة 2015، وثانياً في تنفيذه، لا سيما فيما يتعلق ببرمجة الميزانية وتنفيذها، سواء من حيث الإيرادات العامة أو النفقات”.
“ثلاثة اتجاهات رئيسية”
وبخصوص التقرير التمهيدي للمناظرة الدولية، سجّل بنسودة ملاحظة دالّة مفادها أن “تحليل المالية العمومية، على مدى فترة طويلة، كشفَ عن ثلاثة اتجاهات رئيسية”.
يتعلق الاتجاه الأول بـ”الزيادة في الإنفاق، وعلى وجه الخصوص الاستثمار وفاتورة الأجور، بهدف تزويد المواطنين بخدمة عامة عالية الجودة وضمان تكافؤ الفرص في جميع أنحاء البلاد”، مستدلا بأن “النفقات الاستثمارية المُدرجة في الميزانية العامة للدولة زادت بشكل كبير، إذ تضاعفت بـ 5.2 مرات بين عامي 2013 و2023، منتقلة من 21.3 إلى 110.8 مليارات درهم”.
وفيما يتعلق برواتب موظفي الدولة المدنيين (فاتورة الأجور)، التي تمثل في المتوسط 50 بالمائة من نفقات التشغيل، أشار بنسودة إلى أنها “تضاعفت بنحو 3 مرات بين عامي 2001 و2023، إذ ارتفعت من 52.7 مليار درهم إلى حوالي 152 مليار درهم”.
وأضاف “لا بد من الإقرار بأن الدولة المُشغِّلة، بالإضافة إلى مهمتها في مجال الخدمة العمومية، تؤدي من خلال كتلة الأجور وظيفة اقتصادية واجتماعية، عبر الحد من البطالة وتوزيع الدخل للحفاظ على التماسك الاجتماعي ودعم الاستهلاك”.
أما الاتجاه الثاني المنبثق عن تفحص المالية العامة، فهو “الرغبة في دمج مهن ونظم للمعلومات”، يقول الخازن العام، مسجلا أنه “اتجاه ثابت لدى صانعي القرار منذ التسعينيات. إذ أصبحوا يدركون الحاجة إلى تفكير أشمَل، وعمِلوا على إلغاء تجزئة الهياكل وجعل نظُم المعلومات قابلة للتشغيل البَيني”، قبل أن يضيف أنه “منذ عام 2006 تم دمج الرقابة على التزامات نفقات الدولة من طرف الخزينة العامة للمملكة”.
والاتجاه الثالث يتمثل في أنه “رغم الجهود المبذولة في مجال التدبير الرشيد للنفقات والإيرادات العمومية، وباستثناء عامي 2007 و2008، لا تزال الإيرادات العادية للدولة غير كافية لتغطية النفقات التشغيلية والاستثمارية”، يقول بنسودة، مشيرا إلى أنه “بيْنَ عامي 2001 و2023 انخفض معدل تغطية النفقات الإجمالية (التشغيلية والاستثمارية) من الإيرادات الضريبية والجبائية من 67.3 بالمائة عام 2001 إلى 85.9 بالمائة عام 2008 إلى 65.2 بالمائة عام 2023”.
تعليقات
0